علم الآثار في عصر الفضاء
إن تقانةَ الاستشعار عن بعد تُغيّر وسائلَ الكشف عن الآثار. فقد غدا
الحفر أقل أهمية لاستكشاف المواقع الأثرية، وأصبح بالإمكان
دراسة الآثار المطمورة من دون استخراجها من تحت سطح الأرض.
الحفر أقل أهمية لاستكشاف المواقع الأثرية، وأصبح بالإمكان
دراسة الآثار المطمورة من دون استخراجها من تحت سطح الأرض.
<فاروق الباز>
يقع الربع الخالي في جنوب شبه الجزيرة العربية، وهو مكان مهجور تماما يغطي مساحة تُقدر بنحو 777 ألف كم2 من الصحراء العربية. والحرارة العالية والبيئة القاسية لا تسمحان بوجود الحياة في الربع الخالي، ومع ذلك يقال إنه كان يتمتع في الماضي القريب بمناخ معتدل. فقد روى بدو الربع الخالي للرحالة أن مدينة إرم، التي وصفت في القرآن الكريم بأنها «ذات العماد»، كانت منتجعا على «طريق اللبان». كانت إحدى أمنيات <E.T. لورانس> (المعروف باسم لورانس العرب) هي الكشف عن هذه المدينة المندثرة التي سماها «أطلانتس الرمال»، ولكن أمنيته هذه لم تتحقق، لذلك ما زال البحث عن هذه المدينة التاريخية مستمرًّا إلى يومنا هذا.
ازداد الاهتمام بالبحث عن «ذات العماد» بين رمال الربع الخالي عندما أوضحت صور التقطها كل من مكوك الفضاء والقمر الصنعي «لاندسات» عدة خطوط مبهمة تتقاطع في نقطة واحدة بين الكثبان الرملية التي يصل ارتفاعها إلى 200 متر في جنوب غرب سلطنة عُمان. لقد اعتقد العلماء أن هذه الخطوط توصِل في غالب الأمر إلى موقع مقابر أو مدينة، وبدأ البحث من جديد عن إرم. ففي عامي 1990 و1991 قامت بعثتان بالبحث عن هذه المدينة. ومع أنهما لم تصلا إلى موقع التقاطع هذا، فإن الدراسات التي قام بها الخبراء على أحد الطرق أبرزت آثارًا لموقع يحيط به سور له أبراج، أي عماد.
وعلى الطرف الآخر من العالَم وفي السنوات القليلة الماضية، ساعدت معدات التقانة الحديثة على تقصي آثار من عصور مختلفة تماما. ففي هذه المرة أمكن حلّ اللغز بوساطة الرادار المخترق للأرض، وهو جهاز يبث الموجات الرادارية تحت سطح الأرض ويستقبل صداها المنعكس عن سطح الطبقات المختلفة. فبانعكاس الموجات نتيجة الاختلاف في نوعية طبقات التربة والصخور، يتبين سمك هذه الطبقات وعمقها. في هذه الحالة، تم رصد صدى من طبقة تحتوي على بقايا أحد أنواع الدينوصورات المتحجرة، فاستخرج علماء المستحاثات (الحفريات) هذه البقايا حيث اتضح أنها تمثل حيوانا ضخما كان يعيش في منطقة تسمى الآن صحراء نيومكسيكو، وقد أطلق على هذا الحيوان اسم «السايزموصور»؛ لأن الأرض كانت تهتز تحت حافريه أثناء سيره، وكأنه آلة زلزالية.
لقد غدت أجهزة الاستشعار عن بعد معدات أساسية في الكشف عن الآثار سواء استخدمت على متن أقمار صنعية في الفضاء أو على سطح الأرض. وبما أن معظم علماء الآثار اعتادوا في حياتهم المهنية على استخدام المِعْول والمجرفة لاستخراج الآثار ولمسها والتمعن في أشكالها وألوانها، لذا فإن بعضهم لم يقتنع بعد بأهمية الوسائل التي جلبها عصر الفضاء. لكن أولئك الذين تعرّفوا إمكانات التقانة الحديثة بدءوا باستخلاص الكثير من المعلومات التي توفرها الأجهزة المتقدمة. ولهذا الأمر أهمية خاصة في هذا العصر الذي يدعو فيه الجميع إلى ترميم الآثار والحفاظ على البيئة وعلى المواقع الأثرية ومكوناتها. فاستخدام هذه الأجهزة يُمكّن من الحفاظ على المواقع الأثرية من دون الإضرار ببيئتها.
ازداد الاهتمام بالبحث عن «ذات العماد» بين رمال الربع الخالي عندما أوضحت صور التقطها كل من مكوك الفضاء والقمر الصنعي «لاندسات» عدة خطوط مبهمة تتقاطع في نقطة واحدة بين الكثبان الرملية التي يصل ارتفاعها إلى 200 متر في جنوب غرب سلطنة عُمان. لقد اعتقد العلماء أن هذه الخطوط توصِل في غالب الأمر إلى موقع مقابر أو مدينة، وبدأ البحث من جديد عن إرم. ففي عامي 1990 و1991 قامت بعثتان بالبحث عن هذه المدينة. ومع أنهما لم تصلا إلى موقع التقاطع هذا، فإن الدراسات التي قام بها الخبراء على أحد الطرق أبرزت آثارًا لموقع يحيط به سور له أبراج، أي عماد.
وعلى الطرف الآخر من العالَم وفي السنوات القليلة الماضية، ساعدت معدات التقانة الحديثة على تقصي آثار من عصور مختلفة تماما. ففي هذه المرة أمكن حلّ اللغز بوساطة الرادار المخترق للأرض، وهو جهاز يبث الموجات الرادارية تحت سطح الأرض ويستقبل صداها المنعكس عن سطح الطبقات المختلفة. فبانعكاس الموجات نتيجة الاختلاف في نوعية طبقات التربة والصخور، يتبين سمك هذه الطبقات وعمقها. في هذه الحالة، تم رصد صدى من طبقة تحتوي على بقايا أحد أنواع الدينوصورات المتحجرة، فاستخرج علماء المستحاثات (الحفريات) هذه البقايا حيث اتضح أنها تمثل حيوانا ضخما كان يعيش في منطقة تسمى الآن صحراء نيومكسيكو، وقد أطلق على هذا الحيوان اسم «السايزموصور»؛ لأن الأرض كانت تهتز تحت حافريه أثناء سيره، وكأنه آلة زلزالية.
لقد غدت أجهزة الاستشعار عن بعد معدات أساسية في الكشف عن الآثار سواء استخدمت على متن أقمار صنعية في الفضاء أو على سطح الأرض. وبما أن معظم علماء الآثار اعتادوا في حياتهم المهنية على استخدام المِعْول والمجرفة لاستخراج الآثار ولمسها والتمعن في أشكالها وألوانها، لذا فإن بعضهم لم يقتنع بعد بأهمية الوسائل التي جلبها عصر الفضاء. لكن أولئك الذين تعرّفوا إمكانات التقانة الحديثة بدءوا باستخلاص الكثير من المعلومات التي توفرها الأجهزة المتقدمة. ولهذا الأمر أهمية خاصة في هذا العصر الذي يدعو فيه الجميع إلى ترميم الآثار والحفاظ على البيئة وعلى المواقع الأثرية ومكوناتها. فاستخدام هذه الأجهزة يُمكّن من الحفاظ على المواقع الأثرية من دون الإضرار ببيئتها.
صورة رادارية توضح تفاصيل منطقة في جنوب شبه الجزيرة العربية تشتمل على موقع يعتقد البعض أنه موقع مدينة إرم (ذات العماد، كما جاء ذكرها في القرآن الكريم). والموقع المذكور صغير جدا ولا يمكن رؤيته في هذه الصورة التي تغطي منطقة شاسعة؛ ولكنه يقع قريبا من مركزها حيث تلتقي عدة خطوط حمراء يُعتقد أنها طرق صحراوية أو مدقات. تغطي هذه الصورة مساحة 50x85 كيلومترا مربعا، وقد التقطها جهاز التصوير الراداري SIR-C من مكوك الفضاء.
* تَظهر الطرق الصحراوية على شكل خطوط حمراء. وعلى الرغم من أن بعض هذه الطرق ما زال يستخدم حتى الآن، فإن الدراسة الميدانية أثبتت أن بعضها كان يستخدم قبل آلاف السنين.
*وادٍ شاسع (مسار نهر قديم) يبدو باللون الأبيض؛ لأن جلاميد الصخور في باطن الوادي تعكس موجات الرادار بشدة فتبدو باهرة اللون.
*تعرض المساحات الخضراء صخور الحجر الجيري الصلدة التي تشكل أرضًا صحراوية صخرية.
*كثبان رملية هائلة الحجم (اللون القرمزي) تغطي معظم سطح الصحراء في الجزء الأسفل من هذه الصورة الرادارية.
تاريخ حديث جدًّا
مع أن التصوير الجوي كان مستخدما منذ أوائل هذا القرن، فقد بدأ الاستشعار عن بعد للأرض في الشهر 12/ 1968 عندما بث رواد رحلة أبولّو 8 أول صورة للأرض أثناء دورانهم حول القمر. وقد راقب الناس بإعجاب شديد الكرة الأرضية الجميلة الزرقاء (من لون المحيطات التي تغطي أكثر من 75% منها) وهي تعلو فوق أفق القمر في سمائه السوداء الداكنة. وقد أعلن رواد الرحلات الفضائية في مدار الأرض أنهم استطاعوا تمييز بعض مظاهر الأنشطة البشرية. فلقد تعرفوا مثلا سور الصين العظيم فوق الجبال والهضاب، والأهرامات المصرية القديمة التي تعتلي هضبة الجيزة في جنوب غرب القاهرة. وهذه الملاحظات حثتنا على البدء باستخدام وسائل متخصصة لدراسة سطح الأرض وتعرّف تضاريسها والكشف عمّا يخفيه سطحها من بعيد، وذلك بالاعتماد على تقانة عصر الفضاء المتقدمة.
ففي عام 1972، بدأت وكالة الطيران والفضاء الأمريكية (ناسا) برنامج لاندسات لتصوير الأرض. كان الغرض الأساسي من هذا البرنامج هو مسح الغطاء النباتي للأرض وبخاصة المناطق المزروعة منها. وقد تم ذلك بقياس انعكاس الأشعة تحت الحمراء، التي تعكسها المادة الخضراء في النباتات، فشدة انعكاس هذه الأشعة تتناسب مع صحة النبات وجودة المحصول. وهكذا أخذت صور أقمار لاندسات توضح لنا معالم سطح الأرض من خلال الأطياف الكهرمغنطيسية المختلفة التي تدل ألوانها وشداتها على وجود الغطاء النباتي أو عدمه وعلى الاختلافات في التركيب المعدني والكيميائي للتربة والصخور. وتدريجيا، اتضحت أهمية الصور ليس فقط في متابعة الزراعة والمحاصيل، ولكن أيضا في الجيولوجيا والجغرافيا وعلم الآثار. وقد بدأ عدد من العلماء في أواخر السبعينات باستخدام صور لاندسات في تحديد مواقع آثار حضارة «المايا» في أمريكا الوسطى والبنى القديمة في السهل الواقع بين نهري دجلة والفرات بالعراق.
ففي عام 1972، بدأت وكالة الطيران والفضاء الأمريكية (ناسا) برنامج لاندسات لتصوير الأرض. كان الغرض الأساسي من هذا البرنامج هو مسح الغطاء النباتي للأرض وبخاصة المناطق المزروعة منها. وقد تم ذلك بقياس انعكاس الأشعة تحت الحمراء، التي تعكسها المادة الخضراء في النباتات، فشدة انعكاس هذه الأشعة تتناسب مع صحة النبات وجودة المحصول. وهكذا أخذت صور أقمار لاندسات توضح لنا معالم سطح الأرض من خلال الأطياف الكهرمغنطيسية المختلفة التي تدل ألوانها وشداتها على وجود الغطاء النباتي أو عدمه وعلى الاختلافات في التركيب المعدني والكيميائي للتربة والصخور. وتدريجيا، اتضحت أهمية الصور ليس فقط في متابعة الزراعة والمحاصيل، ولكن أيضا في الجيولوجيا والجغرافيا وعلم الآثار. وقد بدأ عدد من العلماء في أواخر السبعينات باستخدام صور لاندسات في تحديد مواقع آثار حضارة «المايا» في أمريكا الوسطى والبنى القديمة في السهل الواقع بين نهري دجلة والفرات بالعراق.
تعرض هذه الصورة جزءًا من سور الصين العظيم كعصابة برتقالية (في الأسفل). وتعرض الصورُ باللونين الأبيض والأسود المساحة التي حددت بالإطار والتي تمثل القنوات الرادارية الأربع من الجهاز SIR-C. كما تعرض الصورتان في يسار الشكل أوضح منظر لجيلين من هذا السور، حيث الخط المتصل والفاتح اللون هو السور الأحدث، الذي بني قبل نحو 600 سنة؛ والخط الفاتح المتقطع، الذي يظهر فوق الخط الأول مباشرة، هو لبقايا نسخة أقدم للسور (عمرها نحو 1500 سنة). يمكن بسهولة الكشف عن السور من الفضاء بوساطة الرادار؛ لأن أطرافه الناعمة الشديدة الميلان توفر سطحا بارزا من أجل انعكاس أشعة الرادار التي تسقط عليه. والكشف عن السور القديم بوساطة الرادار يسمح للباحثين الصينيين بأن يقتفوا أثر الموقع السابق للبناء عبر مساحات واسعة بعيدة. أخذت هذه الصورة عام 1994 من مكوك الفضاء إنديڤر، وتعرض الصورة السفلى مساحة تقدر بنحو 25x75 مترًا مربعًا.
بعد أن تدرب علماء الآثار على استخدام صور لاندسات استطاعوا استخدام الصور الأكثر توضيحا للتضاريس والمأخوذة من أقمار أخرى أو من طائرات مخصصة لهذا الغرض. كان أحد هؤلاء هو<L.T. سيڤر>، يعمل في مركز «ستينس» التابع لناسا في ولاية ميسيسبي)، الذي تدرب على يد أستاذه <D.P. شيتس> (أستاذ الآثار في جامعة كولورادو). لقد طلب هذان الباحثان استخدام جهاز للتصوير بالأشعة تحت الحمراء من إحدى الطائرات التابعة لناسا، حيث أظهرت الصور خطا ملتويا غريبا في منطقة «تلاران» بشمال غرب كوستاريكا.